يُحكى أن رجلاً نبيلاً رأى في طريق عودته إلى المنزل مجموعة من الناس في أسمال بالية يأكلون من الأرض أوراق شجر يابسة، فتوقف مندهشاً ومتسائلاً عن السبب الذي يدفعهم لأكل ورق الشجر، فأجابه كبيرهم بأن هؤلاء أسرته وهم جوعى ولا يملكون مالاً ليشتروا طعاماً يسد رمقهم إلا أوراق الشجر المتساقطة.
بدا على الرجل النبيل تأثراً ملحوظاً، وطرق يفكر للحظة ثم من دون تردد طلب من الأب أن يتوقف وأسرته عن أكل تلك الأوراق اليابسة، وأن يأتي معه إلى المنزل ليعطيه من الطعام الطازج ما يحتاج، انفرجت أسارير الأب وطار من الفرح، لا يكاد يُصدق أذنيه، وحين همّ بالذهاب معه قال له الرجل النبيل إنه يستطيع أن يصطحب معه بقية أفراد أسرته أقاربه وجيرانه أيضاً، فلديه من الطعام ما يكفي الجميع.
ذهب الجميع مسرورين إلى منزل الرجل الذي فتح لهم الفناء الخلفي لمنزله مرحباً وقال لهم: «تفضلوا، هذه مزرعتي أمامكم كما ترون، الحشيش الأخضر الطازج قد طال كثيراً وتستطيعون أن تأكلوا منه ما تشاءون، وإن اكتفيتم اليوم بإمكانكم العودة اليوم التالي والأكل منه حتى تشبعوا».
الرجل النبيل لم يكن نبيلاً، بل يعتقد أن صنيعه يؤهله لذلك.
كان أحد مديري مدرسة الإدارة القديمة، التي أكل الزمان عليها وشرب ومع ذلك مازال متمسكاً بقوانينها وأدواتها التي تشبه فكر صاحب المزرعة الذي لا يهمه ما يشعر به العامل أو الموظف من تعب أو إنهاك على قدر ما يهمه أن ينهي موسم الحصاد بأسرع وقت ممكن قبل أن يحل موسم الزراعة الجديد، حتى لو دفع العمال للعمل طوال الوقت، فلا يكترث للطريقة التي يتعامل بها مع موظفيه، حتى لو كانت خالية من النبل والقيم الإنسانية.
وأغلب المديرين الذين يمارسون هذا النوع من الإدارة السقيمة، ليسوا قياديين بالمعنى الذي نتوقع، وليسوا مؤهلين للقيادة، بل وجدوا أنفسهم على رأس منصب قيادي وصلوا إليه بالأقدمية، فبعضهم لا يستطيع أن يقدم أي أفكار عصرية، وليست له دراية بفنون وأدوات القيادة الجديدة التي تحرص على تطويرها المؤسسات العالمية من حوله، فيعتقد بأن القيادة تكمن في سلب إنجازات وأعمال موظفيه الجيدين ونسبها إلى نفسه. مقتنعاً أن الدور الرئيس للمدير توزيع الأعمال وأخذ ما يعجبه من جهد غيره لتقديمها لرئيسه الأعلى وهكذا، من دون أن يعي أن الاستمرار في هذا السلوك من دون الإشارة لجهد الموظف، لا يشجع فريق عمله، على قدر ما يسحبهم إلى الوراء، من تكرار عملية الإجحاف والإحباط.
ومن الممارسات الشائعة والمرهقة لدى كثير من قياديي مدرسة «صاحب المزرعة»، استغلالهم الموظف الجيد وإغراقه بالكثير من الأعمال، فإذا اكتشف المدير أن أحد موظفيه لديه أفكار مبتكرة ويستطيع بلورتها وإنجازها على أرض الواقع بإبداع أو في وقت زمني قصير، ما أن ينتهي من تسليمها حتى يسند إليه مزيداً من الأعمال التي تأخذ كل وقته وتنهكه وتضعه تحت ضغوط مستمرة من دون مقابل يذكر، وكأنه سُخرة وليس إنساناً له طاقة محددة.
والأمر المحزن والمرير، حين يقضي الموظف الجيد سنوات عدة من عمره بالعطاء والتفاني المستمر نفسه، فيقابل في النهاية بإجحاف عظيم حين يمر موسم الترقيات الواحد تلو الآخر من دون أن تتم ترقيته، ليصبح جو العمل بالنسبة له مصدر ربكة لمشاعره، فيتشتت تفكيره ويتعاظم داخله الشعور المزمن بالإحباط والظلم، فيفقد الثقة في صدقية مديره، ويبدأ بلوم نفسه على الساعات والأيام التي أهدرها في «جزّ» مزرعة مديره بأسنانه، الذي لم يُقدر في النهاية جهده وعناءه، ولم يكافئه على سلبه ساعات راحته ولا أيام عطلته الأسبوعية، فتظهر الضغينة وتعم المشاعر السلبية.
وحين يغادر الموظف الجيد العمل بعد أن تسوء العلاقة بينه وبين مديره، يعود المدير نفسه، الذي يقود العمل بفكر «صاحب المزرعة»، بالرفع لرئيسه الأعلى وطلب موظف جديد بديلاً عن الموظف الجيد الذي ترك العمل. وحين يُطلب منه تقديم تفسير لذلك، يقدم «صاحب المزرعة» تبريرات عدة، يبدأها بلوم الظروف الاقتصادية، ثم يعلقها على أمور أخرى، فتارة يبرر بوجود فرص منافسة، وتارة يتهم الموظف بسوء الأخلاق، معلقاً إخفاقه وفشل قيادته على الموظف في أغلب الأوقات من دون الإشارة لصلب الموضوع الحقيقي ومواجهته بمهنية.
المحبط أن أغلب المديرين الكبار يعرفون جيداً أن بعض من اختاروهم لقيادة فرق الأعمال والأقسام ليسوا مؤهلين حتى لقيادة قطيع من البط، ومع ذلك يبقونهم على المناصب سنوات طويلة خوفاً من مواجهة التشكيك في جودة اختياراتهم، في تواطؤ إداري لا يقبل أي تبرير، فيستمر الجيدون بالتسرب من الأعمال، وتستمر ترقية السيـئين والتدرج على رأس المناصب.
الوظيفة تعتبر مصدر رزق لعدد كبير جداً من الموظفين والموظفات والعمال والعاملات، فلا تستطيع اليوم وأنت على مشارف عصر جديد أن تستمر «مديراً» باستغلال موظفك الجيد وإغراقه بالعمل، فقط لأنك اكتشفت أنه صاحب أداء رفيع المستوى، من دون أن تفكر كيف تحافظ عليه وتكافئه.
عليك أن تتعلم أيضاً كـ «مدير» أن الحشيش الذي ينبت في مزرعتك مسؤوليتك أنت، فمن الأجدر أن تجزه بنفسك وتتوقف عن إجبار موظفيك على أكله، فإن عجزت عن توفير الأدوات المناسبة لجزّه، جرب أن تأكله بنفسك، لتدرك أن الأعمال لا يمكن أن تدار بـ «فكر» صاحب المزرعة!
* كاتبة سعودية.
@HalaAlQahtani