
أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة الشيخ الدكتور ياسر بن راشد الدوسري، المسلمين بتقوى الله وعبادته، والتقرب إليه بطاعته بما يرضيه وتجنب مساخطه ومناهيه.
وقال: “تتعاقب الأيام، وتتوالى الشهور، وتمضي السنون، والأعمار تطوى، والآجال تقضى، والأبدان تبلى، وكل شيء بأجل مسمى، وها نحن قد ودّعنا عامًا تقضّت ساعاته سراعًا، ومضت أوقاته تباعًا، وكأنها طيف خيال، أو ضيف زار ثم زال، وفي استقبال عام وتوديع آخر تذكرة للمتدبرين وعبرة للمتفكرين، قال تعالى: {يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}، والبصير لا يركن إلى الخدع، ولا يغترّ بالطمع، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغفل عن الأجل، والعاقل الحصيف هو من يتخذ من صفحات الدهر وانطوائه وقفات للمحاسبة الجادة، ولحظات للمراجعة الصادقة، فيرتقي في مراتب الكمال البشري الذي أمره الله بنشدانه، وشحذ الهمم للسعي في بنائه وإتقانه”.
وأشار “الدوسري” إلى أن كل مكلف عاقل، وحتم على كل موقن حازم، وأن يؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه، ومراجعة وتقييم مساره في ماضيه وحاضره ومستقبله.
وأضاف: ” في حوادث الأيام عِبَر، وفي قوارع الدهر مزدجر، فالفرص تفوت، والأجل موقوت، والإقامة محدودة، والأيام معدودة، موضحًا أن هلاك القلب وأضر ما يكون على الإنسان: الإهمال وترك المحاسبة، والاسترسال وموافقة النفس واتباع هواها، فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور، يغمض عينيه عن العواقب ويتكل على العفو، فإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنس بها، وعسر عليه فطامها، وأن النفس خلقت إمارة بالسوء تجري بطبعها في ميدان المخالفة، وقد أمر العبد بتقويمها وتزكيتها، وأن يقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها، فإن أهملها وأغفلها جمحت وشردت وتمردت، ولم يظفر بها بعد ذلك، وإن قومها وحاسبها ارتدعت وأذعنت واستقامت”.
وأردف خطيب الحرم المكي: “وإذا عرف الإنسان عيوب نفسه وآفاتها دفعه ذلك إلى مقتها، والتذلل والخضوع بين يدي خالقها، كما يدعوه ذلك إلى محاسبة نفسه ومجاهدتها، وتطهيرها من الذنوب، وتنقيتها من العيوب، وتزكيتها طاعة لعلام الغيوب، راجيا بذلك الفوز والفلاح”.
وذكر أن السلف الصلح أدركوا هذه المعاني، وقدروها حق قدرها، فترجموها في حياتهم قولًا وعملًا، مبينًا أن التاريخ سطر لهم أروع الوصايا وأعظمها في هذا الميدان، واستفاضت مقولاتهم وسارت بها الركبان، ومن ذلك الأثر الشهير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية”.
وأوضح “الدوسري” أن محاسبة النفس كما تكون بعد العمل فإنها تكون قبله وفي أثنائه، فأما محاسبتها قبل العمل فيكون بالوقوف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحان العمل به على تركه، قال الحسن: “رحم الله عبدًا وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر”، وأما محاسبة النفس في أثنائه فتكون بالاجتهاد في تحقيق الإخلاص والمتابعة في العمل حتى يفرغ منه، وأما محاسبتها بعد العمل فتكون بالنظر في الفرائض والأوامر، فإن رأى فيها نقصًا بذل جهده، واستعان بربه في تتميمه وتكميله، وإتقانه، ثم ينظر في المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئًا تداركه بالإقلاع والتوبة النصوح والاستغفار والحسنات الماحية، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه.
وأشار إلى أن شهر الله المحرم شهر رفيع القدر، عظيم الأجر، والصوم فيه عبادة جليلة، والإكثار منه قربة وفضيلة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم”، ويتأكد صيام يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من شهر المحرم، يوم نجّى الله فيه موسى عليه السلام وقومه من فرعون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى صومه على سائر الأيام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء”. أخرجه البخاري، وعن أبي قتادة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عاشوراء، فقال: “يُكفّر السنة الماضية”، مبينًا أنه يُستحب صيام التاسع معه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع”. أخرجه مسلم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: “صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود”، ولو صام المسلم ثلاثة أيام ففي ذلك فضل صيام التاسع والعاشر، وصيام ثلاثة أيام من الشهر، ولو صام المسلم العاشر فقط كفاه ذلك.