مع حلول كل صيف تتسلل إلينا نسائم الإجازة كوعدٍ رقيقٍ بفسحةٍ من الزمان خارج قيود الروتين وضغط المسؤوليات اليومية.. هي فترةٌ تتمدد أمامنا كصفحةٍ بيضاء فهل نملؤها بخطوطٍ عشوائيةٍ تُبدّد أيامها كرمادٍ في مهب الريح أم نخطُّ فيها فصولاً جديدةً تُعيد تشكيل ذواتنا وتغذي أرواحنا
السؤال ليس عن كيفية قضاء الوقت فحسب بل عن عمق الأثر الذي تتركه هذه الأيام على خارطة وجودنا فالوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك كما يقول المثل وفي خضمّ صخب الحياة الحديثة حيث تتسارع وتيرة الأيام وتتراكم المتطلبات تُصبح الإجازة الصيفية بمثابة نقطة توقف إجبارية فرصةٌ للتنفس بعمق ولإعادة ترتيب الأولويات وربما لاكتشاف أنا أخرى غابت تحت ركام المهام والالتزامات فهل نكتفي بالخلود إلى الراحة السلبية التي قد تتحول إلى رتابة مميتة أم نغتنمها كفرصةٍ لإعادة شحن الطاقات وتنمية المهارات واكتشاف آفاق جديدة
لقد قيل الراحة الطويلة تُورث المَلَل فإنّ الإنسان ليس مجرد آلةٍ تعمل بلا توقف بل هو نسيجٌ معقّدٌ من الروح والجسد والعقل يحتاج إلى التجديد والتغذية المستمرة والإجازة الصيفية بحكم طبيعتها المرنة تمنحنا هذا الفضاء الرحب هي ليست مجرد فترةٍ لترك العمل أو الدراسة بل هي فرصةٌ للتحرر من قوالب الحياة الروتينية هنا تكمن الفرصة الذهبية للتأمل في مساراتنا لتقييم ما فات والتخطيط لما هو آتٍ بعيداً عن ضغط المواعيد النهائية وسرعة الإيقاع التي تفرضها علينا الأيام العادية
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك صحيح الترغيب والترهيب وهذا الحديث الشريف يؤكد على أهمية استثمار أوقات الفراغ والشباب والصحة قبل فوات الأوان فكيف يمكن أن تُعيد الإجازة تشكيلنا بدلاً من أن تُبدّدنا الأمر لا يتعلق بحشو الأيام بالأنشطة بقدر ما يتعلق بجودة هذه الأنشطة وتأثيرها
يمكن للإجازة أن تكون مختبراً شخصياً لتجربة كل ما أهملناه أو لم نجد له وقتاً قراءة الكتب التي تراكمت على أرفف الانتظار تعلم مهارةٍ جديدةٍ طالما راودتنا فكرتها كتعلم لغةٍ جديدةٍ أو تعلم مهارة جديدة أو حتى ممارسة هوايةٍ يدويةٍ تُشبع جانباً إبداعياً في أرواحنا هي فرصةٌ أيضاً لإعادة التواصل مع الذات والطبيعة ففي صمت التأمل بين أحضان الطبيعة قد نجد إجاباتٍ لأسئلةٍ طالما أرّقتنا العلم في الصغر كالنقش على الحجر هو حكمةٌ تُعزز فكرة استغلال الأوقات المتاحة للتعلم والتطوير وليس أقل أهمية هو جانب التفاعل الاجتماعي فالإجازة فرصةٌ لإعادة نسج خيوط العلاقات الأسرية والاجتماعية التي قد تكون قد اهتزت تحت وطأة الانشغال فقضاء الوقت النوعي مع الأهل والأصدقاء وتبادل الأحاديث بعيداً عن الشاشات الرقمية يكوِّن ذكرياتٍ لا تُنسى ويُعزز الروابط الإنسانية.
قال الله تعالى في كتابه الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ" الأنفال 24 هذه الآية الكريمة تذكرنا بأن ما يحيي القلوب ويصلح الحال هو الاستجابة لما فيه صلاح الدنيا والآخرة ومن ذلك استغلال الأوقات فيما ينفع إنها فترةٌ للانفتاح على ثقافاتٍ جديدةٍ من خلال السفر أو حتى من خلال قراءة كتبٍ عن بلدان وشعوب مختلفة مما يُثري فكرنا ويُوسّع مداركنا فخير جليس في الزمان كتاب كما قال المتنبي.
في النهاية الإجازة الصيفية هي مرآةٌ تعكس أولوياتنا ووعينا بقيمة الوقت هل نرى فيها مجرد فاصلٍ زمنيٍّ نُسلمه للبطالة السلبية أم نعتبرها فرصةً ذهبيةً لصياغة نسخةٍ أفضل من أنفسنا إنها دعوةٌ للتأمل العميق لنصبح أكثر نضجاً وإدراكاً فنعبر بها إلى خريفٍ مليءٍ بالحصاد وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" سنن الترمذي وهذا يشمل ترك ما لا يفيد من الأنشطة وتوجيه الوقت والجهد لما يعود بالنفع على الفرد والمجتمع الإجابة كالعنقاء تُولد من رماد اختياراتنا