فـي عـام 1660 م حـين تـأسسـت الجـمعية المـلكية فـــي لـــندن والـــتي جـــمعت الـــعلماء والباحـثين آنذاك لـتنظيم أعمالـهم والـتنسيق بينهم، وقـف المـؤسـسون في حفل الافتتاح لـيشيدوا بفضل الـفيلسوف الإنجـليزي فـرانـسيس بـيكون عـلى تيار الـعلم الحديث. بيكون الفيلسوف ورجـل الـدولـــــة الإنجـليزي الـذي يـعده الـكثيرون أنـه أحد أهم عرابي العلم الحديث وفيلسوف الثورة الصناعية الأولى قبل أن ترى النور بمئتي عام.
بغض النظر إن كنا نتفق مع استعلاء الـبريـطانـيين بـبيكون عـلى غـيرهـم ووصـف بـلادهـم بأنها مهد الـثورة العلمية الحديثة وافـتخارهـــــم بـأنـها شهدت مـيلاد الجمعية الملكية لــلعلوم ومهــد الـثورة الـصناعية الأولى ووضع أسس الـرأسـمالـية الحـديــثة على يد آدم سميث وأسس الـفيزياء الكلاسيكية وأسـس حساب الـتفاضل والـتكامل عـلى يد نيوتـن واكـتشاف الكهـربـاء عـلى يد فارادي ثم معادلات الموجات الكهرومغناطيسية على يد ماكسويل.
بيكون - كما هو يقال عنه - لـيس لديه قدرات عـلمية وثقافــته العلمية ضحلة وعارض كـثيراً مــن الـنظريات العلمية في عصره كنظريات جاليليو وكبلر وكوبرنيكوس في الفلك بل حتى لم يهتم باكتشاف طبيبه الـخاص هارفي لدورة الدم، وقام بتجـربـة علمية ساذجـة دفـع حـياتـه ثـمنا لـها. عاش صراعات سياسية في الـبلاط الملكي وتـولـى خـلالـها الـكثير مـن المـناصـب الـكبيرة ووصـل لمنصب قاضي القضاة واتهم بقضايا فساد حوكم بسببها، وأهدرت معاركه السياسية وطـموحاته وغدره بأصدقائه الكثير من وقته وعقله النير الذي لم يعط البشرية إلا القليل منه.
إذاً ما الذي مــيز هــذا الـعقل الـعتيد ورجل الدولة المتناقض لـيتسنم قمة مجد الفلاسفة الإنجليز ويـطلق عليه كل هذه الألقاب ويكال له كل هذا المديح دهرا بعد دهر وزمنا بعد زمن، وتتزين إحدى بـوابـات مـكتبة الـكونغـرس الأميركي بـنقش اسـمه عليها بوصفه أحد من قادوا البشرية لنهضتها العلمية الحديثة؟
يـقول بـيكون فـي كـتابـه (الأرجـانـون الجديد) فـي وصف فلاسفة وعلماء عصره: (لقد ضللهم منهج الـبحث الـذي يهجـر الـخبرة التجريبية ويجعلهم يلفون ويدورون حول أنـفسهم فـي دوائر مغلقة، بينما المنهج القويم يقودهم من خلال أحراش التجربة إلـى سهول تتسع لبداهات المـــعرفـــة). فهو يرى أن المعرفة هي قوة الإنـسان الأولى وليست تـرفا فقط وزبدا جفاء يفيض من عقول البشر المترفة فلا هو ينفع الناس ولا هو يمكث في الأرض. ويؤكد أنها ليسـت أي مــعرفـة بـل المـعرفـة الـقائـمة عـلى التجـربـة والتجـربـة المـحضة التي تؤكد وتثبت أي ادعاء وتمايزه عن غيره. عـرف أن سـر الـنجاح الـوحـيد هـو إصـلاح الـتعليم فـــأخـــذ عـــلى عـــاتـــقه تـــحقيق ذلـــك إيـمانا ويقينا بأن صلاح الــــتعليم هــــو سر المعرفـة والـتفوق العلمي فكتب كتاباً عنوانه (إصلاح التعليم) أهداه لـلملك جـيمس الأول عـام 1605 بـعد تـولـيه مـقالـيد الحكم بسنتين.
الأرجانون الجــديــد أو الآلــة الجــديــدة الــذي كــتب بـلغة بـليغة تـعد رائـعة مـن روائـع الـكلمة والأدب فـي عــصره ولــم يــكن كــتابــا مســتقلاً بحــد ذاتــه بــل هــو جزٌء مــــــن سـتة أجــــــزاء مــــــن ســــــفْر عــــــظيم عــــــنوانــــــه (الإحــياء الــعظيم) نشـره عـام 1620 م . يـطرح هذا الـعمل الكبير خـطة عامة لإصـلاح الـعلم والــنهوض بــالإنـسان، وللأســف فإنه لـم يـر الــنور من هذا الكتاب إلا أغلب الجزء الـثاني والذي أُطـلق عليه عنوان الأرجانون الجديد في إشارة رمـزية إلـى أن أرجـانـون أرسـطو الـقديـم قـد أصـبح آلــة بــالــية اســتبدلــت بــآلــة جــديــدة تجــريــبية تــناســب العصر الجديد.
تتخــلص فــكرة بــيكون فــي تحــريــر الــعقل مــن أربــعة أوهام تمنع الـعقل من الـتفكير وتـحبسه في عبادة (أصـنام وهـمية)، على حد تعبيره. وهـذه الأوهـام الأربعة هـي أوهام التعميم والقفز إلى الأحكام الكلية وسماهـا وهـم القبيلة (الإنـسانية)، ووهــم الــكهف وهــو أثــر البيئة الــتي يـنشأ فـيها الإنسان الـتي تحـرم الإنسان من الإطلاع على تجارب البيئات الأخرى خارج بـيئته. ثـم المـُقيد الـثالـث وهـو وهـم المسـرح ويـعني الاحـتباس فـــي فكر الـــقدامـى والأخذ بـه بـشكل مطلق دون نـقد وتمحيص، وأخــــــــــيراً الخلط اللغوي وسـوء استخدام المـصطلحات وتبايـن معانيها لدى البعض، فـتصبح مجـرد ضجيج كضجيج الأسواق وأطلق على هذا الأخير وهم السوق.
هكذا أشعل بـيكون شرارة عصر الـثورة الـصناعــــــية قبل أن تبدأ بـمئـتي عام بتصوره مديـنة عـلمية فــاضــلة لا كــمديــنة أفــلاطــون الــخيالــية بـل مـديـنة تـكون أنـموذجـا يجـمع الـعلماء مـن جـميع التخصصات في بـيئة علمية تجريبية أطلق عليها اسم (أطلانـطيس الجديدة)، والـتي أصحبت بـعد وفـاتـه بثلاثة عقود ونيف اللبنة الأولـى في البحث والـتطويــــــر المـنهجي والنشر العلمي وأطلق عليها اسم الجـمعية الملكية قـبل توحيد بريطانيا بعدة أشهر.