في المقال السابق تحدثنا عن الاحتمالات الأربعة والتي يمكن أن تشخص الحالة الراهنة للصناعة الوطنية وهي : إما أن تكون ( 1) النمو العشوائي أو (2) حالة الطفرات الاقتصادية أو (3) النمو التراكمي غير مترابط العناصر أو المكونات الشمولية أو(4) حالة الجسد الصناعي الحي المتكامل. وحتى نتمكن من الحكم على الحالة الصناعية الآنية بشمولية ودقة وموضوعية ، نحتاج أن نفكر في احتمالات أخرى قد تكون صبغة مزجية من هذه الحالات الأربع فتشكل تصورا جديدا فيما بينها ، مما يعطي نظرة أكثر واقعية ويضعنا على عتبة بداية تصور واضح للحالة الصناعية الآنية.
ولكي نبدأ بتشخيص الحالة الصناعية الراهنة ، دعونا – افتراضاً – نُقَسّم بيئة الصناعة بشكل عام وليست المحلية فقط إلى أبعاد أربعة هي البعد القطاعي والبعد الصناعي التطويري وبعد التمكين ونضيف لها ايضاً بعداً رابعاً هو بعد الزمن.
(1) البعد القطاعي وهو البعد الذي يمكن تقسيمه إلى قطاعات صناعية ثلاثة مرتبطة بطبيعة المنتجات وهي قطاع الصناعات الأساسية كالحديد والألمنيوم والنحاس والمعادن الفلزية والبتروكيماويات الأساسية ، وقطاع الصناعة المتخصصة والتحويلية ذات القيمة المضافة كالمواد الكيميائية المتخصصة والمركبة ووسائل النقل وصناعة الفضاء والصناعات العسكرية والأجهزة الإلكترونية والأدوية والصناعات المتعلقة بالطاقة المتجددة وصناعة المعدات والأجهزة ، وقطاع المواد الاستهلاكية والغذائية.
(2) بعد التصنيع المتطور ويشمل طرق التصنيع المتقدم كالذكاء الصناعي والأتمتة واستخدام تقنيات الصناعة الرابعة واستخدام البيانات الكبيرة والاتصالات ، ومهارات رأس المال البشري والقوى العاملة ، والأبحاث والتطوير الأساسي والتطويري والمرونة والتكامل في سلاسل الإمداد الحديثة الآمنة والاستدامة البيئية والهندسة الحيوية . ويمكن تعريف التصنيع المتقدم على أنه ابتكار طرق محسنة لتصنيع المنتجات الحالية، وإنتاج منتجات جديدة بواسطة التقنيات المتقدمة.
(3 ) بعد التمكين ويقصد به الشراكة بين القطاع العام والخاص والدعم الحكومي للصناعة بشكل عام ، وربط البيئة التعليمية والمهنية بحيوية مع مستهدفات الصناعة ، وتوفر البُنى الأساسية وسهولة الحصول على التمويل اللازم ومتانة ومرونة ودقة وعدالة التشريعات والحوكمة والرقابة وتوفر المناخ الصناعي الاستثماري الجاذب للتقنيات ورؤوس الأموال المحلية والعالمية.
(4) بعد الزمن وهو بعد غير مادي ويتعلق بقياس معدلات النمو في فترات زمنية محددة ومتفق عليها للأبعاد الثلاثة السابقة وعناصرها ومركباتها من حيث تكاملها ومعدل نضجها وقياس معدل أثر كل بُعْد على الميزان التجاري والنمو الاقتصادي ثم مقارنتها بمعدلات النمو للأبعاد الثلاثة وعناصرها الفرعية في الدول الصناعية الأخرى .
يمكن تقسيم رحلة الصناعة في المملكة العربية السعودية إلى ثلاث مراحل : مرحلة البدايات وتمتد منذ تأسيس المملكة على يد المؤسس المغفور له الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن إلى نهاية السبيعنيات، ثم مرحلة النمو السريع والنهضة الكبيرة منذ نهاية السبعينيات في القرن الميلادي الماضي وحتى الإعلان عن الرؤية المباركة 2030 . ثم تأتي المرحلة الثالثة والتي نشهد بداياتها ونؤسس ونخطط لها حاليا والمُرَكَبة – في تصوري المتواضع – من مرحلتين وهما: تحقيق مستهدفات 2030 ومابعدها بقليل (2035 ) ، ثم الانتقال – بعد ذلك – لمرحلة النضج وهي مرحلة تحول المملكة العربية السعودية لدولة صناعية تحتل مركزا متقدما في مؤشر التنافسية الصناعية العالمي.
بالنظر المنصف والمجرد لقياس معدل النمو خلال المرحلة الثانية من رحلة الصناعة الوطنية – وهي مرحلة الأساس للمرحلة الثالثة القادمة – وبغض النظر عن بقية العوامل الصناعية ، فلا شك أن القفزة الصناعية كانت خلال تلك المرحلة هائلة وباعثة على الفخر خصوصا إذا قارناها بتجارب دول سبقتنا بقرون في الصناعة. شهدنا خلال تلك المرحلة نمواً كبيراً في حجم الكتلة الصناعية وافترشت المصانع الوطنية بنية أساسية متطورة ، وفاضت رؤوس الأموال اللازمة ونما التصدير وظهر أثر الدعم الحكومي الكبير وتمكنا من حيازة حصة مؤثرة في سوق البتروكيماويات عالميا وقادت المهارات الوطنية رحلة الصناعة الثانية باقتدار ولبت المصانع الوطنية كثيرا من حاجات المنتجات الاستهلاكية محليا. ويمكن تصنيف الحالة الصناعية في تلك المرحلة الثانية في حالة بين الطفرة الاقتصادية ( 2 ) وحالة النمو التراكمي غير مترابط المكونات الداخلية ( 3) .
لكن ماذا عن المرحلة الثالثة التي نشهد انطلاقتها الآن ، وكيف يمكن عسف مُهْرِها مبكراً للانتقال به بسلاسة وثقة للحالة الرابعة ( حالة الجسد الصناعي الحي المتكامل ) ؟. بنظرة موجزة لبداية الرحلة الجديدة نلاحظ أنه قد طرأ مع بداية المرحلة الثالثة تحسن في البعد الأول ( البعد القطاعي ) كالنمو في صناعة التعدين ونمو في حجم الإنتاج من المواد الأساسية والاستهلاكية وظهور مبادارات جيدة . البعد الثاني ( بعد التصنيع المتطور ) يحتاج لدفعة من القطاع الخصل لتجاوز بدايات تطبيقه المتواضعة ، رغم وضوح وتوجه ودعم من صناع القرار للرؤية القادمة المرتبطة بهذا البعد الأهم بين الأبعاد الثلاثة . و قفز البعد الثالث ( بعد التمكين ) قفزات رائعة بتشريعات جديدة مرنة وعادلة وجاذبة، ووضوح في التوجه الاستراتيجي العام ، ودعم حكومي سخي ومتزايد ورقابة صارمة مبنية على سياسات حوكمة واضحة مصحوبة بقياس مستمر للاداء.
هذه الأبعاد الأربعة وعناصرها ومكوناتها وتحدياتها ( البعد القطاعي والبعد التطويري وبعد التمكين وبعد الزمن) هي محاور أحاديثنا التفصيلية القادمة حول الاستراتيجية الوطنية للصناعة بمشيئة الله.