أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس المسلمين بتقوى الله في الرَّخاء والبَأس، لأن تقواه سُبْحانه أزكى الغِرَاس، وبِها النّجاة في الأَرْمَاس. وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ.
وقال “السديس” في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام: في هذه الآوِنةِ التَّارِيخِيّة، تَعيش أمَّتُنَا الإسلاميّة فِتَنًا حَالِكة، وعَوَاصِفَ مِن التحديات هالِكة، اخْتَلَفَتْ ضُرُوبُها، واسْتَحَرَّت كُرُوبُها، وغَدَتْ كَعَارِضٍ مُنْهَمِر ونوء مُسْتَمِر. أَمْلَتْ عَلَى المُسْلِمِين التَّدَبُّر والاعتبار، وعِلاجَهَا بِأَوْفِقِ مِسْبَار، في حزم وحِكمَةٍ واقْتِدَار. ومِنْ أنْكَى تِلْكُم الفِتَنِ في الأُمَّةِ ومِلَّتِها، ووحْدَتِها وألْفَتِها: فِتْنَةُ تغييب العقول: إما بأفكار هدَّامة ضالة، أو مُسْكِرات ومخدرات مُغَيِّبَةٍ مُضِلة. والعقل والإدْرَاك مِن أزكى مِنَنِ البَارِي وأسْنَاها، وأجَلِّ النعم وأغْلاها، فبالعقل يَسْمُو صَاحِبُه، وتَجِلُّ مَنَاقِبُهُ، وتَنْبُو عَنِ الفَرَطاتِ عَوَاقِبُهْ.
وأضاف: الدين الإسلامي جاء بما فيه مصالح العباد في المعاش والمعاد؛ يقول الإمام الغزالي: “ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة”، ولقد حرم الله كل ما فيه فساد للعباد في المعاش والمعاد، لذا حرم الخمر وقال في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وروى الإمام أحمد وأبو داود عن أم سلمة ? أنها قالت: “نَهى رسولُ الله عن كل مُسكِر ومُفَتِّر”. ومن حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لعَن الله الخمرَ وشاربَها وساقيَها وبائعَها ومُبتاعَها وعاصرَها ومُعتصرَها وحاملَها والمحمولَةَ إليه”. أخرجه أبوداود.
وأردف: الحكمة من تحريم المسكرات والمخدرات أنها تقضي على الفرد في أعز ما يملك وهو عقله، والعقل أساس التكليف في الشريعة؛ لذا جاءت نصوص الشريعة بحفظه وجودًا وعدمًا، قال الإمام الشاطبي :”وقد جاءت الشريعة بحفظ العقل من جهتي الوجود والعدم” كما أنها تذهب بالمال وتهلكه، وربما ذهبت بالأنفس وأودت بصاحبها في المهالك وهتك الأعراض وسفك الدماء، وغير ذلك مما حرم الله. وكلما زادت ظاهرة استعمال المخدرات في مجتمع من المجتمعات، ارتفعت معدلات الجرائم الأمنية والأخلاقية، المخدرات خَرابٌ للدين، ودمارٌ للعقل، وإتلافٌ للصحَّة، بَغِيضةٌ إلى الرحمن، رِجْسٌ من عمل الشيطان، ضعفٌ في الدين والإيمان. ولقد أثبتت الإحصاءات أن أكثر من 40 بالمائة من القضايا الجنائية و 60% من الجرائم المجتمعية سببها المخدرات.
وتابع: حينما نبحث عن أسباب تفشِّي هذا الأمر، ولاسيما في محيط الشباب، نجد أن أهم هذه الأسباب: ضعفُ الوازع الديني، وضمور مستوى التربية الإسلامية لدى كثير من الأجيال. والخَوَاءُ والفراغُ الكبير، والتقليدُ الأعمى، وجلساءُ السوء. أضف إلى ذلك ما يعتري بعض المجتمعات في هذا الزمان من تزهيد في العلم والعمل. وإن من أخطر الأخطار التي تهدد عامر الديار وقوع بعض الشباب وربما الفتيات في حبائل قُرَناء السوء الأشرار، وترويج بعض مواقع التواصل للانحرافات السلوكية والمخدرات والمؤثرات العقلية بدعوى المنشطات والمهدئات وتعديل الأمزجة وصقل العقليات، وربما فُتِن بعضهم بشرور المخدرات، تعاطيًا وتسويقَا، أو تهريبًا وترويجَا ويستهويه الأمر فيتمادى به إلى الهلوسة والدمار والضياع والانتحار.
وقال “السديس”: خلاصة الأمر أنه يوم أن ضَعُفَ التدين، وكَثُرَ الجهل بالشريعة، وطغت المادة؛ سَهُل الأمر على من أراد بالمجتمعات سوءًا، فاسْتَنَاخ الأمر تحديًّا حالكًا وحربًا سافرةً ضروسًا تعددت ضروبها وأشكالها فحشيش وحبوب ومادة القات والشبو المخدر وأقراص الأمفيتامين والمخدرات الإلكترونية وغيرها في استهداف خطير وهوس مسيطر تستغل الأحشاء والفواكة والبضائع الاستهلاكية وإطارات السيارات وسواها.
وأضاف: وبعد تشخيص الداء العُضَال، ومعرفة أثره الخَتَّال، فحتما ولابد، من أخذ التدابير الواقية للتصدي لهذا الخطر الداهم، قبل استفحاله واستحكام الندائم والغرائم، دفعًا ورفعًا وللإيذاء قولًا أو فعلاً؛ وأُولَى الخطوات وأَوْلاَهَا: تقوية الوازع الدينيّ، ومُراقبة المولى العليّ، واستشعارِ معيته وتعظيمِ أمره ونهيه، وتحقيق الاعتدال والوسطية، فشريعتنا إعمارٌ لا دمار، بناءٌ ونماء، لا هدمٌ وفناء، تدعو إلى كل صلاح، وتنهى عن كل فساد وطلاح، يقول العلامة ابن القيم: “ومَن تدبَّر أحوال العالم وجد كلَّ صلاح في الأرض سببه توحيد الله وعبادته، وطاعةُ رسوله”، وصدق رب العالمين، حيث قال وهو أصدق القائلين:?وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُور.
وأردف إمام وخطيب المسجد الحرام: ثاني هذه الخطوات الاحترازية، الاستباقية الوِقَاية: وإذكاء الجوانب التربوية والأخلاقية؛ فهي معراج الروح لبناء الشخصية السَّوِية، وجعلها شخصية قويمة متماسكة، راسخة متناسقة، أُسوتها وقدوتها نبي الهدى صل الله عليه وسلم المُضَمَّخ من القيم بأعظم الحظ والنصيب، ويؤكد هنا على مسؤولية البيت والأسرة والأبوين والمدرسة والمسجد وجميع قنوات التربية وكم من شباب تعاطوا المخدرات حتى هلك ومات.
وتابع: ما يميز المجتمع الإسلامي عن غيره أنه آخذ بعضه بيد بعض، يوصي بعضهم بعضًا بالحق والصبر عليه، ويتعاونون على البِرِّ والتقوى، وإن عليكم معشر الشباب والفتيات مسئوليات وواجبات تجاه دينكم ووطنكم ومجتمعكم فلا تضيعوها بتغييب عقولكم، داعيًا الشباب أن يكونو ا على قدر هذه المسؤولية، ابتداءً بأنفسكم: جوارحِكم وأبدانِكم، وأرواحِكم وعقولِكم، وعِلمِكم وعَملِكم، وعباداتِكم ومعاملاتِكم وإن واجبنا الديني والأخلاقي والوطني لَيُحَتِّم على كل فردٍ مِنَّا، وخاصة الشباب والفتيات أن ينهض بواجباته لنكون يدًا واحدة في وجه المفسدين والمنتهكين لحرمات الدين والوطن؛ من خلال التَّصَدِّي لمروجي هذه السموم الخطيرة.
وقال “السديس”: بارك الله لنا في القرْآن والسُّنَّة، ونفعنا ورفعنا بِمَا فيهما من الآيات البيِّناتِ والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولِسَائر المسلمين من كل خطيئة وإثم فاسْتغفروه وتوبوا إليه إنَّ ربِّي لغفور رحيم.
وأضاف: من أَوْلَى ما يجب الاهتمام به وإيلاؤه أوفر العناية في هذه الآونة العصيبة، التحذير من المخدرات وتعاطيها وترويجها، حماية للشباب الذين هم عماد الأمة ومستقبلها.
وأردف: المسؤولية في ذلك تقع على عاتق العلماء والدعاة ورجالِ التربية والفكر والإعلام وحملةِ الأقلام، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته؛ انتشالاً للجيل من حومة الضياع ومسالك الضلال، وأخذًا بحُجَزِهم عن الهُويِّ في سراديب الغواية وغياهب الضياع؛ وإحباطًا لخطط الخصوم والأعداء الذين يتخذون من الشباب مطية لأهوائهم وتضاعف أموالهم والحفاظ على تلاحم أفراد الأسرة والمجتمع مع أبنائهم وتراحمهِم، وفتح قنوات الحوار الهادئ الهادف، وتهيئة الفرص العملية لهم؛ حمايةً لهم من الفراغ والبطالة، وتعاون ذوي اليسار ورجال الأعمال في ذلك مع الجهات المسؤولة، ليتحقق للمجتمع ما يصبو إليه من تحصين لشباب الأمة وحراستهم من المؤثرات السلبية التي قد تجذبهم إلى هذه المسالك المرذولة وإدمانها.
وحمد إمام وخطيب المسجد الحرام الله تبارك وتعالى على ما يسر من حفظ واستتباب أمن هذه البلاد المباركة؛ من خلال الإنجازات الأمنية الكبيرة، والاستباقات المثالية العظيمة التي يبذلها رجال الجمارك وأبطال مكافحة المخدرات في مواجهة هذه الفئات الضالة، مما فَوَّت الفرصة على المتربصين المعتدين. على الرغم من التحديات الممنهجة ضد هذه البلاد المباركة ويبقى في مشافي الأمل بعد الله حسن الأمل.
واختتم بالقول: سيظل أمن بلاد الحرمين وتلاحم ووحدة أبنائها صخرة شماء تتهاوى أمامها سهام الحاقدين الحاسدين وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.