تحدّث إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالمحسن بن محمد القاسم عن منزلة كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- بوصفهما قرينان في الاحتجاج بهما، موضحًا أن من فرّق بينهما، وزعم أن القرآن يكفيه في أمر الدين؛ فهو كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض.
واستهلّ الخطبة مذكرًا بأن الله -جل وعلا- أرسل رسوله محمدًا بالهدى ودين الحق، على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب، وتحريف للكلم، وتبديل للشرائع، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلمتها، وتألفت بها القلوب بعد شتاتها، وهدى الله به الخلاق، وأوضح به الطريق، فأقام به الملّة العوجا، وأوضح به المحجة البيضاء، وجعل الهدى والفلاح في اتباعه، والضلال والشقاء في معصيته.
وقال “القاسم”: الله جل وعلا أرسل نبيّه بأكمل رسالته، وأفضل كتبه، وخاتمة شرائعه، حجة على الخلق، وقطعًا للعذر، جاء من عند ربه بنور الوحي الذي يجلي كل ظلام، وبه حياة الأرواح، قال تعالى: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا}.
وأضاف: تفاصيل الهداية إلى الحق والخير لا تعرف إلا من الوحي، قال تعالى: {وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ ولا الإيمانُ ولَكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا}.
وأوضح إمام وخطيب المسجد النبوي أن الله سبحانه وتعالى أنزل على رسوله وحيين، وأوجب على عباده الإيمان بهما والعمل بما فيهما، فأقواله عليه الصلاة والسلام وأفعاله وحيٌ من الله، فسنّته وحيٌ مثل القرآن، نزل عليه بها الروح الأمين جبريل عليه السلام، قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}، مبينًا أن الحكمة هي السنّة باتفاق السلف، وقد عصم الله نبيه في أقواله وأفعاله، وحفظه من كيد أعدائهم، حتى بلغ الرسالة أتمّ البلاغ.
وأردف: رسول الله صلى الله عليه وسلم عرّف أصحابه وسائر أمته معبودهم وإلههم أتمّ تعريف، حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله ونعوت جلاله، وعرّفهم الأنبياء وأممهم، وما جرى لهم، وما وقع على أممهم ويشاهدونه بأوصاف كماله معهم، حتى كأنهم كانوا بينهم، وعرّفهم من طرق الخير والشر دقيقها وجليلها ما لم يعرفه نبي لأمته قبله.
وتابع: عقولنا تقصر عن إدراك مراد الله، وسُنَّتُه بيان للقرآن وشرح له، بها يعرف ما أُجمِلَ فيه، ومنها تؤخذ تفاصيل الشرائع، وتُنَزلُ آي الكتاب على وجهها، مضيفًا أنه لولا سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – ما اهتدى مسلم إلى عدد ركعات الصلوات، ولا مقادير الركعات، ولا صفة الحج والعمرة، ولا أحكام البيوع والأنكحة، وغيرها من تفاصيل الدين، مستشهدًا بما ورد عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في قوله: “إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئًا، وإنما نفعل كما رأيناه يفعل”.
وذكر أن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موافق للعقول والأصول، لا ينكره عقلُ من عَلِم الموضع الذي وضع الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم- من دينه، وما افترض على الناس من طاعته، ولا ينفر منه قلب من اعتقد تصديقه فيما قال، واتباعه فيما حكم به.
وأوضح “القاسم” أن ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- من أمر أو دلالة على خير، فالأخذ به واجب على العباد، وكل ما نهى عنه أو حذّر منه وجب اجتنابه، وقد حثّ أمته على حفظ سنته وتبليغها إلى الخلق لتقوم بها الحجة.
وأشار إلى أن العبد لا يبلغ حقيقة الإيمان إلا إذا ملأ اليقين قلبه، بتصديق النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل ما جاء به، ولم يتردد في الإذعان لشيء من أوامره، ولم يجد في نفسه حرجًا من التسليم بما أخبر به، ويجب على العبد أن يكون تبعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- في جميع أموره.
وبيّن أن الكتاب والسنّة قرينان في الاحتجاج بهما، من فرّق بينهما وزعم أن القرآن يكفيه في أمر الدين فهو كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، فاتباع أحدهما اتباع للآخر، ولا يختلف الكتاب والرسول أبدًا كما لا يخالف الكتاب بعضه بعضًا، فمن أعرض عن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- أو ترفّع عن الأخذ بها، أو شكك في كلامه وما جاء به، أو اعترض عليه بالعقل أو الخيال أو الهوى تحسّر يوم القيامة على ما عملت يداه.
وتابع أنه لا يُخرج الناس من ظلمات الحيرة، ولا يأخذ بأيديهم عند الفتن وكثرة الاختلاف بين الناس إلا التمسك بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولزومها في جميع الأحوال.
واختتم الخطبة بقوله: توفي صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر للأمة منه علمًا، وعلمهم آداب النوم والقيام والقعود، والأكل والشرب، حتى التخلي، ووصف لهم العرش، والكرسي، والسماء، والملائكة، والجن، والنار، والجنة، ويوم القيامة وما فيه حتى كأنه رأي عين.