يدرك العقلاء من الناس أن خير الأمور الوسط وأن الزيادة والمبالغة في ممارسة أي عمل من الأعمال قد يعطي مفعولا عكسيًا بما في ذلك تلك الأمور المباحة والمحببة إلى النفس، فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن العديد من الأبحاث الطبية تؤكد أن تناول العسل المركز بكميات كبيرة ولفترات طويلة يكفي لإصابة الكبد بالتليف بالرغم أن العسل هو من أكثر الأغذية فائدة للإنسان في حال تناوله بكميات معتدلة، ولكن الزيادة تؤدي إلى نتيجة عكسية، بل لو تحدثنا عن الماء وهو أكثر مايشربه الإنسان ويوصى بشربه دائما لفائدته وأهميته، سنجد أن شرب الماء دفعة واحدة وبكميات كبيرة قد تؤدي للوفاة، وقد رأينا في مسابقات تقام من أجل شرب كميات ضخمة من المياه حدوث حالات وفاة بعد أن بالغ بعض المتسابقين بشرب كميات أكثر مما تحتملها أجسادهم، بل حتى لو تحدثنا عن العلاجات والأدوية التي يستخدمها البشر لمعالجة أمراضهم فسنجد أن هذه الأدوية قد تتحول لسموم قاتلة داخل أجسادنا لو تجاوزت الجرعة المحددة سواء كانت أقراص أو حقن أو غيرها، وقد يؤدي إستخدام كميات كبيرة منها إلى وفاة المريض وما ينطبق على الأدوية والعلاجات ينطبق على تناول الأطعمة بشراهة والتي تتسبب بأمراض كثيرة ومتعددة ومزمنة.
ولو إنتقلنا للأمور الأخلاقية والسلوكية والتعاملات بين البشر فسنجد أن المبالغة بأي أمر قد يؤدي لنتيجة عكسية فالتشدد يؤدي للخروج من الدين والولوغ بالدماء وكما ورد بالحديث الشريف:(هلك المتنطعون) وقوله :(ومن شذ شذ بالنار )وقوله تعالى:( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) وعن أبي هريرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّ الدِّين يُسْرٌ، ولن يُشادَّ الدِّين أحدٌ إلَّا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا، وإستعينوا بالغدوة والرَّوحة وشيء مِن الدُّلجة » [متفق عليه].
وقول رسولنا الكريم :( ما شاد أحد هذا الدين إلا غلبه) وبالمقابل فالمبالغة بالإنفلات وتحت أي شعار سيؤدي أيضا إلى تدمير المجتمع وتحويله لمجتمع مفكك وتافه ويعاني من أزمات إجتماعية وأخلاقية وإقتصادية متنوعة فتكثر فيه الإنحرافات والجرائم، فلا إفراط ولا تفريط في أي تصرف وإلا ذهبت البوصلة لأقصى اليمين أو أقصى اليسار وحينها سيعاني الجميع من هذا التطرف .
ومن العجيب أن نجد بين البشر من يعتقد أن السبب الوحيد لوجودنا في هذه الحياة هو الأكل والشرب والنوم والتكاثر ، فلا عمل،ولا صناعة، ولا زراعة، ولا إبداع ،ولا إختراعات ،ولا تطور، بل مجرد مخلوقات هائمة وضائعة تعيش على هامش الحياة دون أي هدف أو معنى .
ويقابل هذه الفئة من المنفلتين فئة أسوأ منها تاجرت بالدين وحصرته بطقوس معينة دون فهم أو وعي أو إدراك للمعنى الحقيقي والشامل للعبادة التي تجعل الإنسان هو خليفة الله بالأرض ومسؤول عن بناء وتعمير هذه الأرض من خلال العمل والإبداع والصدق والإخلاص والإحسان للناس والمحافظة على البيئة والخوف من الله وإتباع أوامره والبعد عن الغيبة والنميمة والنفاق والظلم فهل إستوعب بعض البشر المعنى الحقيقي لوجودهم ؟
د. فهد سحلي الخناني