أريد من زمني ذا أن يبلغني ... ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
إلى أي زمن يشير المتنبي في بيته هذا؟ فهل هو يترجى من زمنه الحاضر أن يتجاوز به إلى المستقبل؟ أم أنه يتمنى أن يبقى زمانه الحاضر على حال واحدة كما فسرها بعض النقاد؟. والذي يظهر أنه يطلب من زمنه الخاص (النسبي) أن يسرع به بحيث يتجاوز به الزمن المطلق ذاته، وهذا طلب مستحيل حتى في افتراضات النظرية النسبية ذاتها. تجاوز الزمن يعني - في النظرية النسبية - تجاوز سرعة الضوء ما يعني حصول السفر إلى الماضي المستحيل. لكن ما هو الزمن أو الوقت في نظرنا؟، وماذا يعني الوقت فيزيائياً وفلسفياً؟ وهل الزمن ثابت ونحن من يمر به؟، أم أن الزمن متحرك ونحن الثابتون؟
هناك مفهومان أساسيان للوقت: أحدهما أن الوقت نسبي، ولكل جسيم في هذا الكون زمانه الخاص به، والمفهوم الثاني أن الوقت يتلاشى عندما يقترب من الصفر كما تتناوله الفيزياء الكمومية؛ بحيث لا يمكن تحديد اللحظة الآنية، ولكن يتم تحديد فترة زمنية محددة فقط على مبدأ الاحتمالية.
ولشرح المفهوم الأول؛ تخيل أنك مثلا تعيش في كوكب يبعد عن الكرة الأرضية حوالي 2400 سنة ضوئية، فنظريا سترى صور الإسكندر المقدوني وهو يقوم بحملاته العسكرية مثلاً .ولو كان الكوكب يبعد 763 سنة لشاهدت معركة عين جالوت حية ومباشرة على الهواء. الصور والمشاهد تنتقل من مكان الحدث إلى أعين المشاهد بسرعة الضوء وهي 300 ألف كلم في الثانية. وعندما تشاهد كوكب المشتري في السماء فإنك ترى تأريخه قبل ساعتين، كما أنك تشاهد تاريخ الشمس قبل ثماني دقائق. وهذا هو المفهوم النسبي للزمن الذي يعني أننا نشاهد الصور والأحداث بعد انتقالها إلينا وليس في نفس وقت حدوثها. (الآن) عندي هي غير (الآن) عندك، فأنت كما أنك لا يمكن أن تحل معي في نفس الفراغ الذي أملأه، لا يمكن أيضاً أن تملك نفس اللحظة التي أملكها. وهذا تفسير معنى وجود أبعادٍ أربعة في النظرية النسبية؛ ثلاثة أبعاد مكانية، ورابع زماني.
أما المفهوم الثاني فيرى أن الماضي حقيقة ثابتة من الأحداث التي مرت وانتهت وأصبحت تأريخاً يُحْكى، والمستقبل يمثل أحداثاً لم تحصل بعد، ويبقى بينهما الحاضر الذي لا وجود مطلق له. فلا تعريف محددا للحظة الآنية، كما أنه لا يمكن قياسها لحظياً مهما تصاغرت وحدة قياسها. ولكن يمكن أن تقيس الفترة الزمنية كالساعة والثانية والدقيقة والجزء من الثانية فقط، وفرق بين (الآن) بشكل مجرد مطلق وبين الفترة الزمنية.
مفهوم الوقت يبقى جدلياً بين الفلسفة والفيزياء، وفيه مجال واسع للحديث والنقاش العلمي الجاد من جهة، والفلسفي الجدلي من جهة ثانية. نبع من تعريف الزمن نسبياً ومطلقاً معضلة تعريف السرعة، وتحولها لموضوع فلسفي بعيداً عن مفهومها الحركي الفيزيائي؛ فالسرعة عدوة الزمن اللدودة، فهي لا تزيد إلا بنقصانه، ولا تتناقص إلا بزيادته. الجدل اليوم حول ماهية وأهمية الوقت وتسارع مظاهر الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والتغيرات السياسية يحاول أن يضع تصورات جديدة للوقت ويعيد تحليل أزمة التسارع التقنية الراهنة التي أثرت في كل مناحي الحياة. فكل شيء أصبح ليس فقط سريعاً بل يتسارع في ذات الوقت؛ التنقل أصبح سريعاً، والمعلومات ومعالجتها صارت سريعة جداً، والأكل أصبح سريعاً، والمشاعر باتت سريعة، وانتشار الأمراض أضحى سريعاً، والتقنيات تتسارع بنا، وكأننا - نحن البشر - نريد أن نبلغ في أعمارنا مالم يبلغه الزمن من نفسه.