شكسبير - كما يقول النقاد - لم يصادف مجتمعاً لليهود في لندن بشكل مباشر عندما كان يؤلف مسرحيته (تاجر البندقية)، فاليهود قد نفوا من إنجلترا في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، وممارسة العقائد اليهودية، أو هجرة اليهود لإنجلترا كانت تعد جريمة يعاقب عليها القانون آنذاك. ومع هذا، فقد عكس النظرة الأوروبية لنفسية ومعيشة وأسلوب حياة الشخصية اليهودية الرمزية ممثلة بـ(شايلوك) في كل جوانبها وسلوكياتها المالية الجشعة بكل دقة وعبقرية أدبية. النظرة إلى الشخصية اليهودية في أوروبا قبل نابليون تختلف عنها بعد نابليون، فكارل ماركس، وفرويد، وآينشتاين على سبيل المثال شخصيات يهودية مؤثرة اجتماعيا وعلمياً وسياسياً أخذت مكانها نتيجة لخروج اليهود من أحيائهم المنغلقة قروناً واختلاطهم بالمجتمعات بعد الثورة النابليونية.
تطورت علاقة المجتمعات الأوروبية مع اليهود بعد الحقبة النابليونية على مبدأ المصلحة الاقتصادية المجردة مع بقاء نظرة الريبة التاريخية للعنصر اليهودي؛ مما سمح بانفتاح أكثر لاندماج اليهود في المجتمعات الأوربية ومشاركتهم في النهضة الحديثة وتأثيرهم تأثيراً مباشراً فيها. كارل ماركس اليهودي (الملحد) - مثلاً- يعده بعض المؤرخين من أعظم الشخصيات التي أثرت في التأريخ الإنساني بفضل نظريته الاقتصادية التي ترى أن المجتمعات البشرية تتطور من خلال الصراع الطبقي بين الطبقات البرجوازية المالكة لوسائل الإنتاج من جهة والطبقات العاملة المعروفة باسم البروليتاريا. بعد صعود نجم الرايخ الثالث في المانيا تشكل منظور تعاطفي عالمي جديد مع اليهود خصوصا بعد (الهولوكوست). هذا التعاطف الجديد أعطى علاقة اليهود بشعوب وحكومات أوروبا بعدا اجتماعياً أعمق من العلاقة النفعية والاقتصادية السابقة، وصهرهم في المجتمعات بشكل مباشر وواسع.
في كتابه المميز (المكون اليهودي في الحضارة الغربية) ينحى الدكتور سعد البازعي هذا المنحى في وصف الحالة اليهودية قبل نابليون ومابعد نابليون، ويرى أن تقوقع اليهود في أحياء مغلقة (غيتوات) قروناً قبل نابليون منعهم من التأثير المباشر في المشهد الأوروبي كما حصل بعد نابليون حين حصلوا على حقوق المواطنة رغم النبذ الشعبي لهم. لو عدنا إلى شكسبير البعيد عن المجتمع اليهودي، وسألنا لماذا كتب عن الشخصية اليهودية (شايلوك) المرابي اليهودي المنبوذ من تجار ومجتمع البندقية، وجعل هذه الشخصية البخيلة الناقمة محور روايته التي لا تنتهي إلا بتخليه عن يهوديته واعتناقه المسيحية، وخسارته كل ثروته. وحتى يجيب على هذا السؤال بنظرة أشمل؛ ننظر في ملابسات وظروف تلك الفترة الزمنية وبدقة، فالأصل أن ما ينتج من كتابات أدبية وفلسفية وفكرية هي صورة طبيعية للحراك الاجتماعي للعصر الذي تخرج فيه اليهود في أوروبا تعرضوا لمذابح وإقصاءات ومطاردات ونبذ بشكل عنصري من قبل محاكم التفتيش في أسبانيا والبرتغال وما بعدها ولم يتوقف اضطهادهم إلا بعد سقوط النازيين في المانيا. وعلى الجانب الآخر نَعم اليهود بحالة من الحماية والرخاء الاجتماعي والمساهمات العلمية والاختلاط السلمي في كل المجتمعات الإسلامية، التي بلغت قمتها في عصور المسلمين في الأندلس. لكن في الجانب الأوروبي اضطر اليهود خارج الأحياء المغلقة لتغيير دياناتهم واعتناق المسيحية ظاهريا للتغلغل في ممالك أوروبا وتجرأ أصحاب الطموح منهم علي الخروج من بوتقات الأحياء المغلقة. قبل نهاية القرن السادس عشر، وقبل نشر شكسبير مسرحيته بقليل، أُعدم رودريجو لوبيز الطبيب الخاص للملكة اليزابيث الأولى بتهمة مؤامرة تستهدف حياة الملكة بأن قطعت أوصاله الأربعة بعد شنقه أمام جمهور أتسم بالعدائية والتهكم وغل الانتقام.
لوبيز طبيب برتغالي يهودي تظاهر بالمسيحية بعد تعميده قسراً في البرتغال، لينجو من محاكم التفتيش، ويهاجر إلى إنجلترا التي لم تكن تسمح هي الأخرى بوجود اليهود فيها. تعالى صدى هيجان فكري ضد اليهود غير الموجودين ظاهرياً في لندن حينها؛ صاحبه عرض متكرر مرات ومرات بحضور طاغ لمسرحية (يهودي مالطا) التي كتبها إنجليزي آخر قبل حادثة الملكة بعدة سنوات. كما وصل لوبيز لأعلى مرتبة مقربة ليهودي من الملكة، وصل أيضا يهود آخرون لمناصب قريبة من ملوك وملكات أوروبا ولكن بأقنعة مسيحية مستعارة، في نفس الفترة نجد لانير الشاعرة والموسيقية الموهوبة التي تنتمي لعائلة يهودية اعتنقت المسيحية ظاهرياً بعد أن هاجرت إلى لندن قادمة من البندقية لتعمل كموسيقيين في البلاط الملكي؛ نجمة أدبية في نفس الفترة التي كان شكسبير في قمة مجده، وربطها به صلات مجتمع الأدب والمسرح في لندن. هذه الأحداث قد تُفَسر كيف أُلهم شكسبير أحداث المسرحية، ليحذر من خطر الشخصية اليهودية المتغلغلة في طبقات المجتمع العليا والمتسترة بغطاء مسيحي مزيف.
وفي السياق التأريخي لِتَقرب اليهود من صناع القرار في أوروبا ومحاولات السيطرة عليه نجد أن من أهم الشخصيات السياسية اليهودية المؤثرة والتي صنعت التوجه السياسي في دوائر القرار البريطانية لفترة طويلة هو رئيس وزراء بريطانيا لفترتين ما بين 1868 و1880م بينجامين دزرائيلي. ولد بنيامين دزرائيلي في لندن لأب يهودي إيطالي كان قد اختلف مع الجماعة اليهودية في لندن، فاعتنق المسيحية، إلا أن أصوله اليهودية تركت آثارها على شخصية ابنه وتفكيره خاصة في كتاباته الأدبية، فروايته (الصليبية الجديدة) تظهر تمسكه بجذوره اليهودية التي مزجها بمطامع بريطانيا الإمبريالية. صحيح أن دزرائيلي جاء بعد نفي نابليون بخمسين عاما تقريبا، إلا أن وصوله لقمة الهرم السياسي في بريطانيا لم يكن على سبيل المصادفة، بل لعمل طويل وتخطيط محكم في دهاليز السياسة والمجتمعات استمر عقوداً طويلة. ديزرائيلي كان شديد الحماس لمد الإمبراطورية البريطانية إلى العالم العربي حيث فلسطين التي زارها مرتين في شبابه، وقد حصل على قرض من يهودي آخر هو الملياردير روتشيلد، وبدون موافقة البرلمان البريطاني؛ لكي يشتري للحكومة البريطانية حصة كبيرة من أسهم شركة قناة السويس التي تقربه أكثر لفلسطين. اليهود تاريخيا يتعاظم تأثيرهم ويزدهر دورهم عندما يعملون في الخفاء وتحت أقنعة فكرية أو دينية أو إثنية مختلفة عن حقيقتهم اليهودية؛ حيث يمارسون متعتهم وموهبتهم الفريدة في حبك المكائد، ونسج الخطط، ورسم الدسائس في الظلام التي أثرت في تأريخ الغرب الحضاري والسياسي والاقتصادي والعلمي تأثيراً كبيراً دفع العالم الإسلامي والعربي ثمنا باهظاً بسببه.
الدكتور سعد البازعي يهدف من خلال كتابه لرسم رؤية منصفة للمكون اليهودي ودوره في الحضارة الغربية، واستشهد ببعض الأفكار الشجاعة المتمردة على الموروث اليهودي المحرف كجرأة اسبينوزا عليه وسبقه لعصره، وتحديه للمجتمع اليهودي المغلق الذي نبذه في مرحلة مبكرة من عصر النهضة الأوروبية. والكتاب في أقسامه كاف لوضع القارئ في تصور منصف لدور المكون اليهودي في الحضارة الغربية. وأقسامه الثلاثة هي: الأبعاد التاريخية وأزمة الهوية والانتماء، ثم دورهم في عصر التنوير وبداية الخلاص، ثم الدور الحضاري البارز والعلني للأقلية اليهودية كما حصل في مدرسة فرانكفورت الفلسفية، وبروز مفكرين ونقاد كبار مثل بروم ودريدا. والكتاب منصف إلى حد كبير، وقد تتبدى فكرة الإقصاء الكلي للآخر، وتسيطر على عقول البعض وتذهب بهم إلى حد سوء الفهم غير المبرر لمحتويات الكتاب الثري.