على أكتاف الليل، حين تنام المدينة وتخفت الأضواء، هناك رجلٌ لا ينام. يجلس في زوايا الصمت، يقلب الأرقام في رأسه كما يقلب الموجُ حبات الرمل على الشاطئ. يتساءل: كيف يقسّم هذا القليل ليكفي الكثير؟ كيف يحول الخوفَ في صدره إلى طمأنينةٍ في عيون أبنائه؟ كيف يخوض حربا بلا سيوف، لكنه يعود منها كل يوم بجروحٍ لا تُرى؟
بين يديه ميزانٌ من نار، وفي قلبه معركة لا تهدأ
على كفٍّ: خبزٌ وماء، رسوم المدارس، أجرة المنزل، وفاتورة الكهرباء التي تنتظر كالمارد خلف الباب. وعلى الكفّ الآخر: ثوب العيد الجديد، عينان صغيرتان تتألقان بشغف الانتظار، وقلبٌ نقي لم يفهم بعدُ أن الفرح أحيانا يحتاج إلى ثمن. فكيف يختار؟ كيف لا يخذل أحدهما دون أن يكسر الآخر؟
ديونٌ على عتبات الرجولة
ليس كل الجبال من حجارة، بعض الجبال بشر وأشدّها صلابة، ذاك الأب الذي يسند بيته بكتفيه، لا يُظهر انحناءه، وإن ثقل عليه الحمل يعرف أنه لو اشتكى انكسرت أسرته، ولو سقط تداعى البيت فوق رؤوس الجميع لذا، يبتلع التعب، يدفن وجعه في ابتسامةٍ صفراء، ويقول: “أنا بخير”.. حتى حين يكون بخير إلا قليلا.
العيد.. معركة لا يُهزم فيها إلا القلب
يأتي العيد، فيركض الصغار بضحكاتهم، يمدّون أيديهم الصغيرة لتمسك بالفرح كما يمسك الطفل فراشةً ملونة، لا يدركون أنها قد تطير بعيدا في أي لحظة. كيف يخبرهم أن فراشاتهم هذا العام بلا أجنحة؟ كيف يقول لهم: “ليس هذا العيد، يا بني، ربما العيد القادم”؟ أي طعنة أشد على قلب الأب من أن يرى طفله يتطلع إلى نافذة المتجر، يتأمل ثوب العيد، ثم يشيح بوجهه وكأنه لم يشتهِه؟
اللهم لا تكسر رجلا أمام أهل بيته!
أقسى انكسار، ليس أن يُهزم الرجل في معاركه، بل أن يُهزم أمام من يحب أن تُخنقه الدموع لكنه يبتلعها، أن يسير في الطرقات باحثا عن حل، حتى لو كان الحلُّ دينًا جديدًا يضاف إلى سلسلة القيود في معصمه، لكنه يقبل، يُقنع نفسه أن الديونَ تُسدّد، لكن الانكسار لا يُجبر.
الآباء.. أولئك الجنود المجهولون في أرض الحياة
لا تُكتب عنهم القصائد، ولا تصنع لهم التماثيل، لكنهم يخطّون بطولاتهم على جدران الزمن. يُضحون، يُجاهدون، يذوبون كما تذوب الشموع، لكنهم لا ينطفئون. يحمون أبناءهم حتى من حقائق الحياة القاسية، يصنعون الفرح من اللاشيء، ويقفون شامخين حتى لو كانت أرواحهم تحمل ندوب الحروب الصامتة.
أيها الأب، لا تحزن..
اعلم أنك وإن لم تستطع شراء ثوبٍ جديد، فقد نسجت لأبنائك ثوب الأمان. وإن لم تتمكن من شراء حلوى العيد، فقد غرست في قلوبهم حلاوة العِشرة وإن لم تسدد كل الديون، فقد دفعت لهم مهرَ الكرامة.
فتمضي السنون، ويكبر الأبناء، ويكبر معهم الحنين إلى ذلك الرجل الذي علّمهم أن الرجولة ليست في وفرة المال، بل في أن تظل شجرةً وارفة الظلال، حتى وإن كنت في أعماقك مجرد ورقةٍ تصارع الريح .