تجمع مادة (ق) و (د) في المعاجم العربية معاني الامتداد والبسط؛ فالامتداد باعث الاتصال، والبسط باعث الإلهام، وفي القرآن قول الله تعالى: وزاده بسطة في العلم والجسم .
وتركز كثير من تعريفات القيادة الأكاديمية على مفاهيم التفاعل التأثير القدرة والتنسيق والتكامل.
وهذه المفاهيم يمكن أن ينظر إليها بوصفها مفاتيح للقيادة الأكاديمية الفاعلة؛ إذ هي قدرة تُحدث تأثيرًا يقود إلى تفاعل تكاملي بتنسيق .
وانطلاقا من هذه الإشكالات الشعورية التي تحيط بمفهوم القيادة الأكاديمية، قمت بإطلاق استبانة داخلية غير رسمية في قسم اللغة العربية، شارك فيها عدد من أعضاء هيئة التدريس بينهم رؤساء أقسام، وأعضاء في لجان أكاديمية.
وقد جاءت إجاباتهم صريحة، وصوتهم عميقا، فكانت هذه المقالة تأملا حرًا في بعض ما ورد من رؤى، لا تمثيلا رقميا لها، بل تمثلا لوعيها الكامن.
وما دامت القيادة الأكاديمية - في تقدير الكاتب - قدرة فإن الوعي بها من أكثر المطالب الحاحًا؛ لأن الوعي الغائب، والصوت الغائر، والحضور بلا أثر، يعني غياب التنسيق والتكامل، وحلول التشظي والتشتت في بيئة العمل الأكاديمي.
وربما يدفعني نحو هذا المضيق من القول ما يمكن أن يكون هاجسًا بين أفراد المجتمع الأكاديمي، أي فقدان الإلهام القريب المشاهد بالعين، ذلك الإلهام الذي يملأ المكان حضورًا بحسن سمت وصمت، وبدقة توجيه وتنبيه.
إن الإلهام في القيادة الأكاديمية لا يعني ذلك الحزم الحزن، ولا ذلك التقديم والتراكم التجريبي، بل هو في أيسر مفاهيمه تلك الرحمة التي تنضج الإحساس فيشعر القائد شعورًا إنسانيًا يحيط من حوله بأريج المسك وبياض المسلك، فيتقن القائد لغة لا يمكن أن يراها أحد لم يجلس في مكانه، وينظر من زاوية الرحمة التي تملأ قلبه.
ويتبادر سؤال: لماذا نتحدّث عن القيادة؟
والجواب المبدئي الذي يحسن ترتيب القول عليه أن الناظر نظرة أفقية يجد كثرة كاثرة من الكراسي التكليفية التي تضمها بيئات العمل الأكاديمي في التعليم، وأن هذه الكراسي أو لنقل: (المناصب) تصبح عبئا على حركة النمو والتطور العلمي بحثا وتدريسا وازدهارا وطموحا وحيوية، وربما تحولت تلك الكراسي إلى مصائب تعوق المستقبل المنتظر.
وكان كاتب ذي السطور يتلمس في الاستبانة التي أطلقها جوانب الوعي بمفهوم القيادة الأكاديمية بين الزملاء في قسم اللغة العربية، دون نظر لتقييم أَحَدٍ رِفعًا أو خَفضًا لأن التقييم يتعارض مع الهدف المعرفي الذي يروم كاتب هذه السطور الإخلاص له، والخلاص مما يضره أو يعيق نتائجه.
وكنتُ على وعي بمنطق التمفصل في مقاربة مفهوم القيادة الأكاديمية، ولذلك استعملت - بالإضافة إلى منطق التمفصل
منطق التموضع فاستبدلت تلك المقاييس الإدارية بالمقاييس الشعورية المهنية؛ لأن الشعور بالقيادة الأكاديمية ضرورة، وممارسة تطبيقات القيادة الأكاديمية تكليف، ولا ينفعني وأنا أبحث عن منطق التأسيس للوعي الشعوري أن تنحرف الأداة إلى غير ما تهدف.
وقد تحقق لي أنني بعد التمفصل)، والتموضع)، والوعي الشعوري) جمعت شيئًا لا يوصف بأنه رقمي، بل هو مرايا شعورية صغيرة تعكس ضياء بوعي هادئ ومعجب بعظمة مفهوم القيادة الأكاديمية، واحترام وتقدير لكل من يكلف قائدًا في بيئة العمل الأكاديمي، وتوسيع لهذا المفهوم يضم إلى الإدارة رقة القلب ولينه، وصدق النصيحة ونجاعتها.
ولذلك يرى كثير من المشاركين أن اللقاءات التي تجمعهم بقياداتهم الأكاديمية محترمة غير أن جوهرها غائب، فينتهي أثرها بانتهاء القضايا المطروحة للنقاش.
ورغم غياب الجوهر إلا أن نسبة جيدة من المشاركات كشفت أن نظرتهم للقيادة الأكاديمية والوعي بمفهومها يمثل عاملا حاسمًا في قبولهم أي عرض أكاديمي، وقد يرفض العرض الأكاديمي إذا لم تكن القيادة الأكاديمية في مستوى ما يكنونه من احترام الشرفها وعيا، ومفهومًا، وممارسة.
وربما يظن أن المحايدة في بعض البيئات لا تعني رأيًا، لكنها في الحقيقة كشفت في وعي المشاركين أن الشعور بصراحتهم وصدقهم مطلب مهم ينبغي أن يُفهم أو يُحترم، ولذلك فهم من النتائج أن الاقتران بين الاستشارة والتنفيذ أمر تلازمي يحدث شرخا بين التنظير للقيادة الأكاديمية وممارستها فنا في بيئة العمل الأكاديمي؛ إذ تصلح عبارة "تستشارُ حِينَ لا يترتب على رأينا شيء أصدق وصف لذلك الشرخ وفقدان المصداقية القيادية.
وهذا يدل على غياب المراجعة الذاتية، وأن ذلك مشكلة حقيقية في القيادة الأكاديمية يمكن وصفها بالعبارة: "القيادة التي لا تَتَفَقَّدُ ذاتها بالمراجعة تتآكل ببطء".
وقد أعجبني منطق المفارقة في تعليق دقيق لإحدى المشاركات من ذوات الحس التحليلي الهادئ حين كتبت: هناك قيادات أكاديمية ليست لها صلاحيات فقط مسمى، وتكليف.
وهذه الجملة تفتح نافذة على ما خلفها من إدراك واضح لمأزق القيادة الشكلية، وللفجوة التي تصنعها الألقاب حين تغيب معها القدرة على الفعل.
ولعلنا نخلص إلى أن القيادة الأكاديمية تتجاوز كثرة الملفات والقرارات وازدحام الجدول بالاجتماعات؛ إنا وجود صامت يحفظ للمكان هيبته، وللقلوب مكتنزاتها، وللتدفق العملي انسيابيته.
إنها الوجود حيثُ ينبغي الوجود، والصمت لقوة التأثير بالسمت والقدرة على احتواء الحقيقة وتحفيز الأكاديميين نحو التطوع في القاعة والمكتب، والتعليم في كل مكان، والفرح بتطوير المعرفة في الفرد والمؤسسة والمجتمع. وملحة المقال تشير إلى أن :
الوعي بمفهوم القيادة الأكاديمية تجديد مستمر أكثر من تجديد الدماء.
جامعة الحدود الشمالية