الألمُ ليس ندبةً عابرة على جسد الحياة، بل هو نداءٌ عميقٌ يوقظ في أرواحنا مناطقَ لم نكن نعلم بوجودها. إنّه المطرقةُ التي تُهشِّم قشورَ الوهم لتكشف عن جوهرٍ صلبٍ يتوهّج في الأعماق. فمن ذا الذي قال إنّ الدموع ضعف؟ أليست قطرات المطر التي تسبق ازدهار الأرض؟
لقد خُلِق الإنسان ليصطلي بنار التجارب، وليصوغ من حرارتها ملامح إنجازه. وما العظماء إلا أسرى لحظةِ ألمٍ قرّروا أن يحوّلوها إلى لوحةٍ مبهرة تُعلَّق على جدار التاريخ. فها هو الشاعر يكتب من جرحه قصيدةً تُبكي القلوب، وذاك المخترع يصنع من عجزه وسيلةً تُحرّر البشر، وتلك الأرملة تربي أبناءها على صلابةٍ تُنجب رجالًا تُصافح بهم الأمّة المجد.
الألم في حقيقته امتحان، لكنه امتحانٌ لا تُمنَح فيه أوراق الأسئلة، بل تُكتَبُ الإجابة على صفحة الروح، حيث يُختبَر الصبر، ويُوزَن الإيمان، وتُقاس الإرادة بمدى قدرتها على النهوض بعد الانكسار. فمَن سقط وظلّ في قاع جرحه، لم يُدرك أن في القاع عرقَ ماءٍ لو حفرَ قليلًا لوصلَ إلى نبع حياة جديدة.
ليس الإنجاز أن تبني وأنت قويّ، بل أن تنهض وأنت مثخنٌ بالخيبات؛ أن تُمسك قلمك ودمعك لم يجف، وأن تكتب ملحمةً يُصفِّق لها الزمن. هنالك فقط يتجلّى الفنّ العظيم: فنُّ تحويل الألم إلى إنجاز.
إن الألم يا صاحبي ليس عدوّك، بل هو صانعك الخفيّ؛ يضعك في أتون التجربة حتى تنصهر شوائبك، فتخرج أكثر نقاءً، أشدّ صلابةً، وأوسع أفقًا. وحين تُدرك هذه الحقيقة، لن تخشاه بعد اليوم، بل ستستقبله كما يُستقبَل المعلّم الصارم: بوجلٍ أولًا، ثم بشكرٍ عميقٍ آخر المطاف.
فلتجعل من آلامك سُلّمًا، ومن دمعك مدادًا، ومن كسرك جسرًا. حينها فقط ستفهم سرّ الحياة: أنّ الله لم يبتلِك ليُعذِّبك، بل ليصنع منك إنسانًا لا يليق به سوى الإنجاز.