[SIZE=6]
كانت أمسية زلّومية صويرية جوفيّة رائعة حينما تتبعنا مسير خطى ذاك الشاعر الرويلي المفتون باقتناء الإبل بين تلك " الطعوس " وذاك " الحماد " باحثين عن طعم لبنها السكري ، فقال لي : الإبل سفن البرّ ...جلودها قرب ...ولحومها نشب ...وبعرها حطب ... وأثمانها ذهب ...مهر الكريمة ... عصافير ... بألبانها يتحف الكبير ...ويفرح الصغير ... وهي تحقن الدماء ... ويسود بها وئام الأمة ...سأريك ــ يا عزيزي ــ بابا منيفا ممرّدا ، ابتني هناك بين نباتات الخزامى ، بقربه جناحيّ نسر ، وسقفا مُسندة ... ثم أخذ يصف ناقته وصفاً جمالياً من حيث قوتها ، وسرعتها ، وضخامتها ، ورأسها العظيم السـامق القوي كأنه سندان حداد ، وخدّها الصقيل وكأنه قرطاس ، وعنقها الطويل وكأنه سُـكان سفينة يدفعها ويبطئ بها ويسرع متى شاء ، وعينيها كأنهما مرآتين في بريقهما ولمعانهما . ثم تابع حديثه بقوله : وهي أثمن ما لدي من مقتنيات ... هي دائماً نصب عيني لا أفرط بها مهما كانت الأسباب . ومع ابتسامة عريضة تابع قوله : لا تخلّص الناقة المرء من همومه وأحزانه فحسب ، وإنما تكون أحيانا وسيلة الخلاص من أسر الحب أيضا ، مما دفعني لسؤاله : أيمكن أن تكون الناقة معادلا للحبيبة في ذاته وشعره ؟ . فكانت إجابته : إن ناقتي تحس كما أحس ، وتتألم كما أتألم ، وتبكي كما أبكي لكن بكاءها بغير دموع ، فقد يقطع العربي وصل حبيبته ، ويستبدله بناقته بديلا عن الهجر والحرمان فهي الملجأ الذي آوي إليه وقت الهجير وحين المبيت ، وقد يبلغ الاندماج بيني وبين ناقتي إلى أن يصل بي الأمر إلى الشعور بما ينتابها من إحساس ، لم لا ؟؟ فهي رفيقة الحل والترحال ، تصاحبني ليلاً ونهاراً ، وهي الوحيدة التي أنثر أمامها روائع نظمي وإبداعاتي ، وحينما يبلغ الجهد من ناقتي مبلغه أكاد أشعر أن رغاءها يرتفع وأنينها يعلو ، وتتجه إليّ بالشكوى فتصل الآهات إلى أعماق نفسي ، وتتلاقى المشاعر ، وتزول الحواجز بين الإنسان والحيوان ، فتغدو ناقتي إنسانا يستطيع التعبير عن همومه وأحزانه . ولكثرة ما قد يصيبها من مشقة وجهد ؛ فقد تبدأ بالأنين والشكوى لي ، وقد يصيبها الهذيان كإنسان محموم لازمته الحمّى لأيام طوال ، فإذا ما ألمت به كثر أنينه وتعالت شكواه ، ومن هنا يتم التواصل بيني وبينها ، ويصبح كل منّا يفهم لغة صاحبه ، فما علينا إلا أن نناجي بعضنا بعضا ، وأن يفضي كل منّا للآخر ، وبما يعتلج في نفسه من هموم ، ولا غرو فإن حدائي لها قد يخفف مما انتابها من ألم ولوعة الفراق .
ولما كانت للناقة تلك المكانة في نفسه ، فقد جعلها مدار وصفه تارة ، و فخره تارة أخرى .وقد أكّد لي أنه إذا تكالبت عليه الهموم ، وأراد الهروب ، فإنه لا يجد مفراً من تلك الهموم إلا باعتلاء ظهر تلك الناقة والغوص بها في لجة الحماد... ومضينا على هذه الحال إلى أن أشرفنا على مكان سكناه ؛ فإذا به ينادي ــ وظنناه ينادي أحدا من ساكني البيت ــ فأقبلت علينا تلك الناقة التي أخذ يربّت على رأسها ورقبتها ، وكأن كلا منهما يسأل صاحبه عن طول غياب ، فالتفت إلي وقال : لقد عشت مع هذه الناقة ردحا من عمري ، فأيّ راع من رعاة الإبل لا بدّ أن يتتبع مراحل إبله العمرية من الحوار إلى الفطيم إلى الحق إلى اللجي إلى الجذع إلى الثني إلى الرباع إلى السدس إلى الثلب ، ولم أفهم هذا التدرّج في ترعرع ناقته ، وكانت كلماته توحي بالهموم التي كانت تلاحقه طيلة حياته مع تدرّج سني إبله .
نعم ؟! لقد كانت الإبل عند أجدادنا مطاياهم التي يرتحلون عليها ، وراحلتهم التي يأنسونها في قطعهم الصحاري الطوال ، تؤنسهم ويأنسونها ... ينشدون لها حداءهم ، ونصبهم ، وسنادهم بأنغام تذهب عنهم وحشة الطريق ، وتجدد لهم نشاط الحياة بطي الفيافي . فمع خطواتها نشأت موسيقى الشعر العربي ، ومع وقع خفافها تولّدت بحور هذا الشعر، غنّى لها الشعراء فأنست بإيقاعاتهم ، ودارة عجلة التاريخ البشري ؛ فظل الإخلاص ، والفطنة ، والوفاء، سمة من سماتها ، والشموخ ، والكرامة ، والإباء ، والكبرياء ، رمزا يعلو أنوفها ليستقي منها الإنسان العربي سمو عزته وكبريائه . ومن هنا يمكننا القول بأن الشعر العربي جاء وليدا للظروف البيئية في جزيرة العرب ، وبقي عند حدود الشكل العام لطبيعة الأدب العربي الذي يتلاءم مع الحياة البدوية القائمة على نظام دائرة القبيلة ، حيث اتسمت فطرة الإنسان العربي بوجدان سلس وعاطفة جيَّاشة تعززه أذن موسيقية تزن الكلام فتقوّم معوجَّه ، وتطرب للمستقيم منه ، فتسيِّر ركابه ، كيف لا ، والعرب يجدون ذواتهم في إبلهم ومسمياتها ، فهم أكثر ظعنا ، وأبعد في القفر مجالا ، لأن مسارح التلول ونباتها وشجرها لا تستغني به الإبل في قوام حياتها من مرعى الشجر في القفر ، وورود مياهه الملحة ، والتقلب في فصل الشتاء فرارا من أذى البرد إلى دفء هوائه ، وطلبا لمفاحص النتاج في رماله ، إذ الإبل من أصعب المخلوقات فصالا ومخاضا ، وأحوجها في ذلك إلى الدفء ، فاضطروا إلى إبعاد النجعة ، وربما ذادتهم الحامية عن التلول أيضا ، فأوغلوا في القفار نفرة عن النصفة منهم ، والجزاء بعدوانهم ... هؤلاء هم العرب ... وهم أبعد نجعة ، وأشدّ بداوة ، لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط .
ويأتي ارتباط الإنسان العربي بناقته ارتباطا وثيقا تحتمه طبيعة البيئة التي جبل عليها ، فأصبح لها مكانة خاصة في كل مناحي حياته ، وإذا كان الشعر ديوان العرب المحفوظ في صدورهم ، والذي تعيه حافظتهم ، وقلوبهم ، وأذواقهم ، وملكتهم الأدبية والفطرية ؛ فقد أضحت الإبل عمودا مهما من أعمدة هذا الديوان منذ العصر الجاهلي وحتى يومنا هذا ، ولعل هذا هو الذي جعل الإبل محط عناية شعرائهم . فلقد أعطانا هؤلاء الشعراء أجمل الصور الشعرية التي تتحدث عن علاقة العربي بناقته، وقلَّ أن نجد بينهم شاعراً جاهلياً لم يتناول هذا الغرض بالحديث ، وكان وسيبقى حداء العربي لإبله في الصحراء سرّ أودعه الله في طباع العرب ، واختصهم به تمشيا مع فطرتهم التي جبلوا عليها .
وعندما اختار الله سبحانه وتعالى الإبل في القرآن الكريم ، جاء ذكره لها كي يتدبرها البشر لما فيها من أسرار ومواعظ كثيرة تدل على عظمة الخالق جل شأنه ، وذلك في قوله تعالى : ( إفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) سورة الغاشية 17 ، ولا تسل عزيزي القارئ عن ناقة ثمود التي جعلها الله سبحانه وتعالى آية للناس حيث قال سبحانه : ( قل هذه ناقة لها شرب ولكم شربَ يوم معلوم ) سورة الشعراء155 . وجعلها سبحانه وتعالى فتنة لقوم صالح عليه السلام حين قال : ( إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر) سورة القمر 27 . ولا يغيب عن البال " القصواء " ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم التي كانت ركوبته أثناء هجرته .
وفي الحقيقة لم يلق حيوانٌ اهتماماً في نفوسنا مثلما لاقت الإبل ، وأيقنا لماذا جعل شاعرنا الإبل محور أشعاره حينا ، ومدار فخره حينا آخر ، ومع وقع خفاف تلك الإبل أسرى بنا ذاك الشاعر بحدائه على ظهر ناقته كي يشكل من خلال إسرائه ذاك هندسة قصيدة عربية يرسم من خلالها إطار قصائده بضربات إيقاعية منظمة ومتناسقة متوافقة مع انفعالاته ضمن كيان متلاحم متكامل من الألفاظ والعبارات المكتنزة بالإيحاء النفسي من ارتفاع وانخفاض ،فجاء نتاجها لحنا فنيا متناسقا له أثره الخلاب في شد المتلقي أو المستمع ؛ بسبب تدفقات النغم الشعري المتولد من الترانيم الملحّنة المتساوقة مع موقف الحياة، والمصورة لشعوره وإحساسه بها ، وكل ذلك في عمل ثنائي فني متقن مثّله ذاك الحادي وناقته دون وعي منه بما أورده ابن رشيق عن هذه العلاقة بقوله : "وغناء العرب قديماً على ثلاثة أوجه: النصب ، والسناد، والهزج . فأما النصب فغناء الركبان والفتيان... ومنه كان أصل الحداء كله .
إن العلاقة التلازمية بين إيقاع حركة الناقة من جهة ، ونغم الحادي من جهة أخرى شكّل خاصية نوعية ميّزت بنية النقد والشعر العربي معا على وقع خفاف الإبل ، فإذا كان الشعر العربي ديوان العرب ، فإن الإبل هي عمود من أعمدة هذا الديوان منذ عصر الجاهلية حتى الإسلام وما بعده ، وحتى عصرنا الحاضر ...[/SIZE]